عقلية التحزب والمواقف المسبقة
الاعتداد بالنفس، وإساءة الظن بالآخرين تمثل بدايات طبيعية للتقوقع على الذات، ومن ثم صنع تكتلات صغيرة داخل المجتمع الواحد، ولا شك أن هذا يخالف ما يدعو إليه ديننا الإسلامي الحنيف من الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة وكل ما يمزق الجماعة أو يفرق الكلمة؛ حيث يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[آل عمران:102 - 105].
ويبين الله عز وجل أن وشيجة الأخوة هي الرباط الحقيقي بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبر عن ماهية الإيمان، حيث يقول الله سبحانه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات:10]. ويقيم سبحانه سياجًا من الفضائل والآداب الأخلاقية لكي يحمي الأخوة مما يشوهها ويؤذيها من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والغيبة؛ حيث يقول الله سبحانه بعد الآية السابقة مباشرة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:11، 12].
وقد أكدت السنة النبوية وفصلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف؛ والتحذير من الفرقة والاختلاف؛ فقد دعت إلى الأخوة والمحبة، وحذرت وزجرت عن العداوة والبغضاء، ومن ذلك على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" [أخرجه الترمذي].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله على الجماعة" [رواه البخاري ومسلم]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية" [رواه البخاري ومسلم]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [رواه النسائي]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا" [رواه البخاري ومسلم].
ولا يزعج أي غيور على دينه ثم بلده أن يكون في الساحة الفكرية والثقافية في كل مجتمع اتجاهات أو مدارس أو جماعات متعددة لكل منها منهجه في خدمة الدين والبلد، والعمل على التمكين لهما في الأرض، وفقًا لتحديد الأهداف وترتيبها، وتحديد الوسائل ومراحلها، والثقة بالقائمين على تنفيذها، من حيث القوة والأمانة والإخلاص والكفاية.
ومن السذاجة بمكان الدعوة إلى مدرسة واحدة أو اتجاه واحد يضم جميع العاملين على منهج واحد؛ فهذا تقف دونه حوائل شتى، وهو مطمع في غير محله، فلا مانع من أن تتعدد المدارس والجماعات والاتجاهات العاملة لنصرة الدين وخدمة البلد إذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض، على أن يتم بين الجميع قدر من التعاون والتنسيق، كي يكمل بعضهم بعضًا ويشد بعضهم أزر بعض، وأن يقفوا في القضايا المصيرية والهموم المشتركة صفًا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص.
ولكن الذي يزعج ويؤلم حقًا أن يوجد بين الكُتَّاب والمفكرين من لا يقدِّر هذا الأمر حق قدره، وأن يدعو إلى التحزب واتخاذ المواقف المسبقة، ويركز دائمًا على مواضع الاختلاف لا نقاط الاتفاق، وهو دائمًا معتدٌّ بنفسه ومعجب برأيه، مزكٍّ لنفسه واتجاهه، متهم لغيره مسيء الظن به.
والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطرًا، وخصوصًا في مسائل الفروع، وإنما الخطر في التفرق والتعادي الذي حذر منه الإسلام بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة؛ كما تقدم.
ولعل من أسباب بروز مشكلة التحزب المذموم: التعصب لبعض المذاهب الفقهية؛ أو الشخصيات الدينية، أو الاتجاهات الفكرية. ولذا نحن بحاجة ماسة إلى وعي عميق بما يسمى بـ(فقه الاختلاف) الذي عرفه خير قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى؛ فلم يضرهم الاختلاف العلمي شيئًا، وجهله كثير منا، فأصبحنا يعادي بعضنا بعضًا بسبب مسائل يسيرة أو بغير سبب.
والله نسأل أن يؤلف بين قلوبنا وأن يجمعنا على الخير والهدى، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــ
المصدر/د. مفرح بن سليمان القوسي[1] ( مجلة البيان 216) بتصرف يسير
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
ثقافة و فكر
الاعتداد بالنفس، وإساءة الظن بالآخرين تمثل بدايات طبيعية للتقوقع على الذات، ومن ثم صنع تكتلات صغيرة داخل المجتمع الواحد، ولا شك أن هذا يخالف ما يدعو إليه ديننا الإسلامي الحنيف من الاتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف، والبعد عن الاختلاف والفرقة وكل ما يمزق الجماعة أو يفرق الكلمة؛ حيث يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[آل عمران:102 - 105].
ويبين الله عز وجل أن وشيجة الأخوة هي الرباط الحقيقي بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبر عن ماهية الإيمان، حيث يقول الله سبحانه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات:10]. ويقيم سبحانه سياجًا من الفضائل والآداب الأخلاقية لكي يحمي الأخوة مما يشوهها ويؤذيها من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والتجسس والغيبة؛ حيث يقول الله سبحانه بعد الآية السابقة مباشرة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:11، 12].
وقد أكدت السنة النبوية وفصلت ما جاء به القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والائتلاف؛ والتحذير من الفرقة والاختلاف؛ فقد دعت إلى الأخوة والمحبة، وحذرت وزجرت عن العداوة والبغضاء، ومن ذلك على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" [أخرجه الترمذي].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله على الجماعة" [رواه البخاري ومسلم]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة شبرًا فمات فميتته جاهلية" [رواه البخاري ومسلم]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [رواه النسائي]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا" [رواه البخاري ومسلم].
ولا يزعج أي غيور على دينه ثم بلده أن يكون في الساحة الفكرية والثقافية في كل مجتمع اتجاهات أو مدارس أو جماعات متعددة لكل منها منهجه في خدمة الدين والبلد، والعمل على التمكين لهما في الأرض، وفقًا لتحديد الأهداف وترتيبها، وتحديد الوسائل ومراحلها، والثقة بالقائمين على تنفيذها، من حيث القوة والأمانة والإخلاص والكفاية.
ومن السذاجة بمكان الدعوة إلى مدرسة واحدة أو اتجاه واحد يضم جميع العاملين على منهج واحد؛ فهذا تقف دونه حوائل شتى، وهو مطمع في غير محله، فلا مانع من أن تتعدد المدارس والجماعات والاتجاهات العاملة لنصرة الدين وخدمة البلد إذا كان تعدد تنوع وتخصص، لا تعدد تعارض وتناقض، على أن يتم بين الجميع قدر من التعاون والتنسيق، كي يكمل بعضهم بعضًا ويشد بعضهم أزر بعض، وأن يقفوا في القضايا المصيرية والهموم المشتركة صفًا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص.
ولكن الذي يزعج ويؤلم حقًا أن يوجد بين الكُتَّاب والمفكرين من لا يقدِّر هذا الأمر حق قدره، وأن يدعو إلى التحزب واتخاذ المواقف المسبقة، ويركز دائمًا على مواضع الاختلاف لا نقاط الاتفاق، وهو دائمًا معتدٌّ بنفسه ومعجب برأيه، مزكٍّ لنفسه واتجاهه، متهم لغيره مسيء الظن به.
والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطرًا، وخصوصًا في مسائل الفروع، وإنما الخطر في التفرق والتعادي الذي حذر منه الإسلام بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة؛ كما تقدم.
ولعل من أسباب بروز مشكلة التحزب المذموم: التعصب لبعض المذاهب الفقهية؛ أو الشخصيات الدينية، أو الاتجاهات الفكرية. ولذا نحن بحاجة ماسة إلى وعي عميق بما يسمى بـ(فقه الاختلاف) الذي عرفه خير قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى؛ فلم يضرهم الاختلاف العلمي شيئًا، وجهله كثير منا، فأصبحنا يعادي بعضنا بعضًا بسبب مسائل يسيرة أو بغير سبب.
والله نسأل أن يؤلف بين قلوبنا وأن يجمعنا على الخير والهدى، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــ
المصدر/د. مفرح بن سليمان القوسي[1] ( مجلة البيان 216) بتصرف يسير
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
ثقافة و فكر